فصل: قال الشعراوي:

مساءً 9 :42
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة {فبغى عليهم} معترضة بين جملة {إن قارون كان من قوم موسى} وجملة {وءاتيناه من الكنوز} والفاء فيها للترتيب والتعقيب، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرء من وقع الحسام المهنّد

والبغي: الاعتداء، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها، وأول ذلك خرق شريعتها.
وفي الإخبار عنه بأنه {من قوم موسى} تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه.
وفي قوله: {إن قارون كان من قوم موسى} محسّن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن، أي النثر الذي يجيء بميزان بعض بحور الشعر، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر.
وجملة {إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} صلة {ما} الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع {إن} في افتتاح صلة الموصول.
ومنع الكوفيون من ذلك واعتُذر عنهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا {ما} هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة.
والمفاتح: جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقيية وهو آلة الفتح، ويسمى المفتاح أيضًا. وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} في سورة [الأنعام: 59].
و{الكنوز} جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة، وتقدم في قوله تعالى: {لولا أنزل عليه كنز} في سورة [هود: 12]، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون: بدرة مال، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه.
وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال يكفي الكوفة مفتاح أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل:
جبان الكلب مهزول الفصيل

{وتنوء} تثقل. ويظهر أن الباء في قوله: {بالعصبة} باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قول امرىء القيس:
وأردف إعجازًا وناء بكلكل

ولا كمثال صاحب الكشاف: ناء به الحمل، إذا أثقله الحمل حتى أماله. وأما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب، فلا يقبله من كان له قلب.
والعُصبة: الجماعة، وتقدم في سورة يوسف. وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر. وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها.
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين وابتغ فِيمَآ ءَاتَاكَ الله الدار الاخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد في الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} {إذ} ظرف منصوب بفعل بغى عليهم والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقًا ب أذكر محذوفًا وهو المعني في نظائره من القصص.
والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله.
والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى: {وفرحوا بها} في [يونس: 22].
ويطلق على البطر والازدهاء، وهو الفرح المفرط المذموم، وتقدم في قوله تعالى: {وفرحوا بالحياة الدنيا} في سورة [الرعد: 26] وهو التمحض للفرح.
والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضًا عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله: {وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة}.
وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مرادًا به العجب والبطر.
وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيدًا لدلالة المقام بقوله: {إن الله لا يحب الفرحين} أي المفرطين في الفرح فإن صيغة فعل صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي، فالجملة علة للتي قبلها، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزًا إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك. وابتغاء الدار الآخرة طلبها، أي طلب نعيمها وثوابها. وعلق بفعل الابتغاء قوله: {فيما ءاتاك الله} بحرف الظرفية، أي اطلب بمعظمه وأكثره.
والظرفية مجازية للدلالة على تغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال، فالظرفية هنا كالتي في قوله تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء: 5] أي منها ومعظمها، وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ** ونشرب في أثمانها ونقامر

أي اطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر.
{الدار الاخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ}. جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها، والواو اعتراضية.
والنهي في {ولا تنس نصيبك} مستعمل في الإباحة. والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل «ولم ينس حق الله في رقابها» أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة.
وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات، فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله. فقيل: أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحلّ الله لك.
والنصيب: الحظ والقسط، وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز، وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حرامًا.
قال مالك: في رأيي معنى {ولا تنس نصيبك من الدنيا} تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك. وقال قتادة: نصيب الدنيا هو الحلال كلّه. وبذلك تكون هذه الآية مثالًا لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة.
و{من} للتبعيض. والمراد بالدنيا نعيمها. فالمعنى: نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا.
{مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد في الأرض إِنَّ الله لاَ}. الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبنى عليه الاحتجاج بقوله: {كما أحسن الله إليك}. والكاف للتشبيه، وما مصدرية، أي كإحسان الله إليك، والمشبه هو الإحسان المأخوذ من {أحسن} أي إحسانًا شبيهًا بإحسان الله إليك. ومعنى الشبه: أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها. وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل، ومثلها قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198].
والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلًا من معاني الكاف.
وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يُحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها.
وفي الحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» فالإحسان في كل شيء بحسبه، والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.
وعطف {لا تبغ الفساد في الأرض} للتحذير من خلط الإحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد وإنما نص عليه لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان.
والمراد بالأرض أرضهم التي هم حالّون بها، وإذ قد كانت جزءًا من الكرة الأرضية فالإفساد فيها إفساد مظروف في عموم الأرض.
وقد تقدمت نظائره منها في قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} في سورة [البقرة: 205].
وجملة {إن الله لا يحب المفسدين} علة للنهي عن الإفساد، لأن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله، وقد كان قارون موحّدًا على دين إسرائيل ولكنه كان شاكًّا في صدق مواعيد موسى وفي تشريعاته.
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} جواب عن موعظة واعظيه من قومه.
وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرَّت بطره وازدهاءه.
و{إنما} هذه هي أداة الحصر المركبة من إنّ وما الكافة مصيّرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم ما. والمعنى: ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته.
وضمير {أوتيته} عائد إلى ما الموصولة في قولهم {وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة} [القصص: 77]. وبني الفعل للنائب للعلم بالفاعل من كلام واعظيه.
و{على علم} في موضع الحال من الضمير المرفوع.
و{على} للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به، يعني بذلك قولهم له {لا تفرح وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} [القصص: 76، 77].
وقد كان قارون مشهورًا بالعلم بالتوراة ولكنه أضلّه الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميرًا من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد، فقال أبو شريح له: ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولًا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلِّغ الشاهد الغائب» فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم ولا فارًّا بخربة.
ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها، فأراد بجوابه إنكار قولهم: آتاك الله صلفًا منه وطغيانًا.
وقوله: {عندي} صفة ل {علم} تأكيدًا لتمكنه من العلم وشهرته به.
هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه {أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون} الآية، كما ستعرفه.
وذكر المفسرون وجوهًا تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى {على} ومحمل المراد من {العلم} ومحمل {عندي} فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الآخرة، إنما يجعله مثَلًا وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم يؤمن بيوم القيامة لعلَّه يرتدع.
والنبي صلى الله عليه وسلم اضطهده كفار قريش، ووقفوا في وجه دعوته، وآذوْا صحابته، حتى أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم، ومع ذلك ينزل القرآن على رسول الله يقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
فيتعجب عمر رضي الله عنه: أيُّ جمع هذا؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا، فلما وقعتْ بدر وانهزم الكفار وقُتِلوا. قال عمر: نعم صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
لذلك يقولون: لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه، ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام الله منه تعجّبوا وقال أحدهم: لابد أن الله انتقم منه دون أن نشعر، فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا، فوراء هذه الدار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وعَدْل الله- عز وجل- يقتضي هذه المحاسبة.
والحق- تبارك وتعالى- يجعل من قارون عبرةً لكل مَنْ لا يؤمن بالآخرة ليخاف من عذاب الله، ويحذر عقابه، والعبرة هنا بمَنْ؟ بقارون رأس من رءوس القوم، وأغنى أغنيائهم، والفتوة فيهم، فحين يأخذه الله يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه.
وحدَّثونا أن صديقًا لنا كان يعمل بجمرك الأسكندرية، فتجمّع عليه بعض زملائه من الفتوات الذين يريدون فَرْضَ سيطرتهم على الآخرين، فما كان منه إلا أنْ أخذ كبيرهم، فألقاه في الأرض، وعندها تفرَّق الآخرون وانصرفوا عنه.
ومن هذا المنطلق أخذ الله تعالى قارون، وهو الفتوة، ورمز الغِنى والجاه بين قومه، فقال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى} [القصص: 76] إذن: حينما نتأمل حياة موسى عليه السلام نجده قد مُنِي بصناديد الكفر، فقد واجه فرعون الذي ادَّعى الألوهية، وواجه هامان، ثم موسى السامري الذي خانه في قومه في غيبته، فدعاهم إلى عبادة العجل.
ومُني من قومه بقارون، ومعنى: من قومه، إما لأنه كان من رحمه من بني إسرائيل، أو من قومه يعني: الذين يعيشون معه. والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا، لكن المفسرين يقولون: إنه ابن عمه. فهو: قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.